تأملات في مكة المكرمة
ماهر أبو طير
تغيب اسبوعا وفي "مكة المكرمة" ترتاح اعصابك من هذه الصراعات "النخبوية" في عمان ، وتتأمل الحشد والتحشيد المُضاد ، من بعيد ، وكأن الجميع يجلس فوق صفيح ساخن ، وتكتشف كم هي كل القصة سمجة ، حين يغرس كل من تعرف مخالبه في ظهر كل من تعرف ، اجتماعيا وسياسيا ومن كل المستويات.
في مكة المكرمة ، تسترجع السر الاساس ، في الحياة ، سر العدالة بين البشر ، وحين يطوف حول الكعبة ، الالاف الذين قدموا من دول مُختلفة. اعراق مُختلفة. وجوه سمراء وبيضاء وصفراء. الغني والفقير. المُتنفذ والمسكين. تعرف ان السر هو في العدالة ، وحين تغيب العدالة عن اي مجموع بشري تحل بينهم الامراض والمشاكل ويستوطن الغضب في قلوب الناس. عندنا لا عدالة لا في وظيفة ولا في حياة. القوي يأكل الضعيف. الغني يتعشى على الفقير. وصاحب الواسطة يسرق وظيفة من ينتظرها سنوات ، ومن يُهّمر بصوت عال ، يُخيف صاحب الصوت المنخفض ، فأي عدالة هي تلك حين تتأمل كل شيء من الخدمات مرورا بما يحصل عليه الانسان ، وصولا الى ما يدفعه الانسان من ضرائب وضرائب على الضرائب.
الطوافون عند الكعبة مجموع مثالي وسماوي في طوافه ، والكعبة حالة خاصة في حياة البشرية لا يصح القياس عليها ، ومقارنتها بأي مكان اخر ، غير انك تتأمل ما بثه الدين من قيم اساسية ، وبين ما يفعله البشر. يدوس السنغالي على قدمك بعنف عند الطواف فيعتذر لك ، ولا تجد الا ان تُقبّل رأسه وتطلب منه ان ينسى الموضوع. عندنا لا احد يُسامح الاخر هذه الايام. الكل يدوس على اقدام الكل بسبب ودون سبب ، والقصص مثل الدبابيس التي يتم غرسها في الجسد.
لان سر "مكة المكرمة" سر رباني يقول ان لا فرق بين انسان واخر ، والكل قريب ومُقرب ، فان هذا السر يعيد انتاج الاسئلة حول الغضب في صدور الناس ، ولماذا هذا الكم الهائل من التشاحن والضيق والقلق. الجواب واضح. مخالفة القاعدة الربانية في العدالة. لماذا يتخرج فلان في الكرك ويجلس عشر سنوات بلا عمل ، ويتخرج فلان البارحة ويحصل على عقد بالاف الدنانير. لماذا يمرض فلان ويحصل على علاج في افضل المستشفيات داخل البلد او خارجه ، فيما فلان يموت على فراشه وهو ينتظر الدواء غير الموجود او الطبيب غير المتوفر. لماذا يدفع الانسان ضرائب اكثر من شعر رأسه ، ولا يجد مقابلها حتى ابتسامة من الموظف الحكومي المُبتلى هو الاخر بنقص الدخل ، وضيق الحياة. فرد تلو فرد. جماعة تلو جماعة ، فيصبح الطواف الدنيوي نكدا وصعبا وضيقا ، ويصبح جمع الطوافين على شؤون حياتهم وقد تعثرت خطواتهم ، ولم ينالوا لا عدالة ولا حياة هانئة.
في "مكة المكرمة" تمتد تلك اليد الكريمة فترفع عن صدرك احمال ثقيلة ، وعن ظهرك الجبال ، فتتأمل سر العدالة ، بعيدا عن الضجيج والصخب ، وتعرف ان المساواة بين الناس ، مفتاح طمأنينة اي مجتمع. عند الكعبة الكل راض ، لانهم يطلبون فينالون ، يشكون ويبكون ، يتألمون ويضجون ، ويسمعهم واحد احد. في حياة البشر خارج هذه الدائرة الربانية ، لا بد من استسقاء لذات الانموذج على مستويات فردية وبشرية ، فاذا وجد الانسان من ينصفه ومن يستمع له ، ومن يرحمه ومن يسعفه ، حلت البركة والطمأنينة في اي مكان ، وحلت العادلة والانصاف والمساواة كقيم ربانية الاساس ، وبشرية الظلال.
حتى نسترد السر الذي اودعه الله في حياتنا ، فأهملناه ، فسنبقى في تعب ، وسنبقى ندوس على اقدام بعضنا البعض ، وسيبقى الكل متوتر مستنفر ، مشحون غاضب ، وستبقى اللعبة مستمرة ، لعبة غرس الانياب والمخالب في ظهر بعضنا البعض ، ولعبة التحشيد على حساب حياة الناس ، لان بعضنا رأى النور ، فقرر ان يتيه عنه عامدا متعمدا ، فجاء الجزاء معيشة ضنكا.
بين ان تكون سماويا او ان تكون ارضيا فرق كبير ، ولم ينتصر اسلافنا الا لانهم كانوا سماويين في الارض ، لا ارضيين في الارض. أليس كذلك؟.