في رحاب ذكرى المولد النبوي
حمزة شاهين
*
إن من سنن الله تعالى في الكون أن الانفراج يكون بعد الشدة ، والضياء يكون بعد الظلام ، واليسر بعد العسر.
وبعد ذلك الظلام الحالك الشديد الذي غطى سماء البشرية حيث عتم ظلام الشرك والكفر ، والشر والفساد ، إذ نظر الله تعالى الى الناس عربهم وعجمهم، لما هم عليه من الكفر والفساد ، فاخذت تباشير الصباح تلوح بقرب انبثاق النور المحمدي ، تلوح هنا وهناك في الافاق المظلمة .
ولد الفجر المحمدي في شهر ربيع الاول من عام الفيل الذي اصبح يعرف بربيع الانوار .
أن الرسول صلى الله عليه وسلم ولد من نكاح شرعي لا من سفاح جاهلي ، وهي عصمة الالهية من الله عزوجل ، ان امنة لم تجد اثناء حملها به صلى الله عليه وسلم ما تجده الحوامل عادة من الوهن والضعف ، فكان هذا اية من الله .
ان امنة لما حملت به صلى الله عليه وسلم أتاها آت : انك حملت بسيد هذه الامة .
ولد الرسول صلى الله عليه وسلم سوي الخلق ، جميل الصورة ، صحيح الجسم ،ونشا يتيما شريفا، وشب فقيرا عفيفا ، لم يصبه شي من رجس الجاهلية ، فلم يعبد الاصنام ، ولم يحضر سامرهم ولا ندواتهم ، ولم ينظم الشعر كما ينظمون ، ولا عنى بالنثر والخطابة كما يعتنون ، ولم يؤثر عنه قول ولاعمل على حب السلطة والحكم ، ولم يشاركهم في شي من خرافات الجاهلية وضلالات الشرك ، بل كان يحب العزلة ويألف الوحدة.
ولقد ازال الله عزوجل حجب الظلام بارساله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم خير الخلق اجمعين ، فاشرقت الارض بالنور المحمدي ، وارتفعت راية الحق عالية في كل انحاء الدنيا داعية الى توحيد الله عزوجل ، ونشر الخير في العالم كله .
فمولده صلى الله عليه وسلم حدث عظيم لا توصف عظمته ، فهو مولد الخير والنور ومولد المنهج الرباني الذي فيه صلاح البشرية .
اننا بذكرى مولده نشكر الله عزوجل على ما انعم على هذه الامة من ظهور خير الخلق في الوجود ، ، وبتذكر أخلاقه وسيرته الشريفة ومعاملته وعبادته ، وخير من يدعو إلى ذلك الدعاة والعلماء ، فعليهم أن ينصحوا الناس ويرشدهم إلى الخير والفلاح ويحذروهم من البدع والشر والفتن.
أن ذكرى مولد الرسول صلى الله عليه وسلم زيادة في حبنا وتعلقنا وتعظيمنا لرسولنا –صلى الله عليه وسلم- ، ولكن هذا الحب لايكون صادقاً ما لم يقترن بإحياء سننه وإتباع سيرته-صلى الله عليه وسلم- فهو خير داعية إلى الله تعالى، وخير زوج وحاكم ، وخير قدوة وأسوة لكل فرد وعلى أي هيئة كان وصفه في المجتمع على مر العصور والأجيال.
إن المولد النبوي الشريف،لهو اجتماع خير يذكر فيه الله عز وجل، ويكثر فيه من الصلاة على رسول الله-صلى الله عليه وسلم-ومدحه وتعظيم جنابه، وهو أمر محمود ومطلوب شرعاً، أضف إلى ذلك أن فيه إظهار الفرحة والشكر، فيكرم الفقراء والأطفال الصغار، وتصل الرحمة.
أما إذا اشتمل الاحتفال بالمولد على أمور ينكرها الشرع، كاختلاط الرجال بالنساء وارتكاب المحرمات وكثرة الإسراف والغناء واستعمال آلات اللهو المحرم، أو القراءة من موالد تحتوي على قصائد وعبارات لا تصح شرعاً فلا شك هنا في تحريمه لما خالطه من محرمات لا لذاته.
واعلم أن الرسول-صلى الله عليه وسلم-كان يعظم يوم مولده، ويشكر الله تعالى على نعمته الكبرى عليه، وكان يعبر عن ذلك بالصيام، كما جاء عندما سئل عن الصيام يوم الاثنين فقال عليه الصلاة والسلام: ((ذلك اليوم ولدت فيــه)).
وقد بين العلماء كابن حجر العسقلاني والسيوطي، وغيرهم ان للمولد اصلا ثابتاً وذلك عند حضوره-صلى الله عليه وسلم-مهاجراً الى المدينة المنورة، فوجد اليهود يصومون يوم عاشوراء احتفاء بنجاة سيدنا موسى عليه السلام من بطش فرعون، فأمر الناس بصيامه قائلاً عليه الصلاة والسلام
(نحن اولى بالصيام منكم)) فأجاز اظهار شكر الله على نعمة اسدادها في يوم معين ويعاد كل سنة، واي نعمة اعظم من ميلاده-صلى الله عليه وسلم-؟
وقد سئل فضلية الدكتور يوسف القرضاوي ما حكم الاحتفال بهذه المناسبة؟ وما واجبنا تجاه الحبيب صلى الله عليه وسلم؟
وقد أجاب فضيلته على السائل بقوله: بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فهناك لون من الاحتفال يمكن أن نقره ونعتبره نافعاً للمسلمين، ونحن نعلم أن الصحابة رضوان الله عليهم لم يكونوا يحتفلون بمولد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا بالهجرة النبوية ولا بغزوة بدر، لماذا؟
لأن هذه الأشياء عاشوها بالفعل، وكانوا يحيون مع الرسول صلى الله عليه وسلم، كان الرسول صلى الله عليه وسلم حياً في ضمائرهم، لم يغب عن وعيهم، كان سعد بن أبي وقاص يقول: كنا نروي أبناءنا مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما نحفِّظهم السورة من القرآن، بأن يحكوا للأولاد ماذا حدث في غزوة بدر وفي غزوة أحد، وفي غزوة الخندق وفي غزوة خيبر، فكانوا يحكون لهم ماذا حدث في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكونوا إذن في حاجة إلى تذكّر هذه الأشياء.
ثم جاء عصر نسي الناس هذه الأحداث وأصبحت غائبة عن وعيهم، وغائبة عن عقولهم وضمائرهم، فاحتاج الناس إلى إحياء هذه المعاني التي ماتت والتذكير بهذه المآثر التي نُسيت، صحيح اتُخِذت بعض البدع في هذه الأشياء ولكنني أقول إننا نحتفل بأن نذكر الناس بحقائق السيرة النبوية وحقائق الرسالة المحمدية، فعندما أحتفل بمولد الرسول فأنا أحتفل بمولد الرسالة، فأنا أذكِّر الناس برسالة رسول الله وبسيرة رسول الله.
وفي هذه المناسبة نذكِّر الناس بهذا الحدث العظيم وبما يُستفاد به من دروس، لأربط الناس بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب 21] لنضحي كما ضحى الصحابة، كما ضحى علِيّ حينما وضع نفسه موضع النبي صلى الله عليه وسلم، كما ضحت أسماء وهي تصعد إلى جبل ثور، هذا الجبل الشاق كل يوم، لنخطط كما خطط النبي للهجرة، لنتوكل على الله كما توكل على الله حينما قال له أبو بكر: والله يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فقال: "يا أبا بكر ما ظنك في اثنين الله ثالثهما، لا تحزن إن الله معنا".
نحن في حاجة إلى هذه الدروس فهذا النوع من الاحتفال تذكير الناس بهذه المعاني، أعتقد أن وراءه ثمرة إيجابية هي ربط المسلمين بالإسلام وربطهم بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليأخذوا منه الأسوة والقدوة، أما الأشياء التي تخرج عن هذا فليست من الاحتفال؛ ولا نقر أحدًا عليها.
ولقد استحسن العلماء والمسلمون في جميع البلاد والعصور ، الاحتفال بالمولد النبوي الشريف ولقد الف الحافظ السخاوي ، والف الحافظ ابن ناصر الدين الدمشقي كتابا في المولد الشريف ، والحافظ ابن كثير وغيرهم الكثير .
*محرر في جريدة اللواء