نايف بن حمود الرضيمان
ما شرع المنبر إلا من أجل الخطبة، سواء كانت للجمعة أو العيدين أو
غيرهما، فالخطبة بضم الخاء أو الخطابة هي: الهدف من مشروعية المنبر، ولا
يمكن أن يتحقق الهدف إلا بتحقق أركانه، فأركان الخطبة ركنان: الخطيب أولا،
الخطبة نفسها ثانيا، يأتي بعد ذلك ما يتعلق بهذين الركنين من شروط وواجبات
وسنن وأحكام ومستحبات وقواعد وأصول وقوانين، وما يتعلق بالخطيب من الأداء
واختيار الموضوع والتأثر والتأثير .. وغير ذلك كثير، ولذلك كان من أول ما
بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم حال مقدمه المدينة مهاجرا هو المنبر،
لأهمية رسالته في إيصال ما من شأنه نفع الناس في أمور دينهم ودنياهم، فإن
الخطابة شيء مألوف لدى الإنسان من قديم الزمان تقتضيه التجمعات البشرية
لإيصال توجيه أو إرشاد أو فكر معين في هذه الحياة من قبل قادة الناس
وساداتهم، وعلى رأس هؤلاء البشر أنبياء الله ورسله، فهم رواد لأممهم
وخطباء لشعوبهم، فقد بعثهم الله ومعهم الحجة والمحجة ليعملوا بها ويقارعوا
أهل المقارعة، قال الله تعالى (وتلك حجتنا آتينها إبراهيم على قومه نرفع
درجات من نشاء، إن ربك حكيم عليم)، وقد طلب موسى من ربه أن يجعله فصيح
اللسان، قال الله تعالى (رب اشرح لي صدري * ويسر لي أمري * واحلل عقدة من
لساني * يفقهوا قولي)، وقد بلغت الأمة العربية من الفصاحة والبيان ما لم
تبلغه أمة قبلها، حتى كانت خطبهم وشعرهم قبل الإسلام تعلق في جوف الكعبة
تشريفا لها وتعظيما لشأنها، ومنها المعلقات السبع المعروفة، وقد اشتهر من
تلك الفصحاء البلغاء الخطباء: خارجة بن سنان، وخويلد بن عمرو الغطفاني،
وقس بن ساعدة الإيادي، وأكثم ابن صيفي .. وغيرهم، ولما كان القوم الذين
بعث فيهم النبي محمد صلى الله عليه وسلم هذا حالهم، كانت معجزة النبي صلى
الله عليه وسلم من جنس ما تميزوا به، إلا أنها فاقت ما كانوا عليه، بل لقد
تحداهم الله بأن يأتوا بمثل هذه المعجزة ولو استعانوا بغيرهم من الخلق،
وكان بعضهم لبعض ظهيرا، وأنا لهم ذلك، وهذه المعجزة هي كتاب الله الخالد،
وأفصح الناس وأبلغهم وأخطبهم، هو رسول الهدى صلى الله عليه وسلم ومن بعده
خلفاؤه الراشدون رضوان الله عليهم، ومن عرف من الصحابة وفضل بهذه المنقبة
العظيمة.
عرف العلماء الخطبة عموما بتعريفات كثيرة، والحقيقة أن هذه
التعريفات تنصرف إلى بعض جزئيات الخطبة دون البعض الآخر، كمن قصد علم
الخطبة، أو ما يختص بالخطيب دون الخطبة، أو ما يختص بالقالب الذي تؤدى
الخطبة فيه، ولكن لعل هناك تعريفا يمكن أن يقال به وهو: إن الخطبة أو
الخطابة هي القدرة المتزنة على الإثارة والإقناع لتحقيق هدف معين بأجمع
عبارة وأوجز لفظ.
ويدخل تحت هذا التعريف جميع أنواع مقامات الخطب،
الدينية والسياسية والاجتماعية والحربية والترغيبية والترهيبية .. وغيرها،
مراعيا الخطيب في ذلك كل المميزات والخصائص والممازجات المصاحبة للخطبة
كحسن المنطق، وبراعة التصوير للأحداث لدى المستمع، وإنزال المستمعين
المنزلة اللائقة بهم، فمخاطبة المثقف تختلف عن مخاطبة العامي وأخلاط الناس
.