استقرار الحيف و الخوف و استقرار الكفاية و العدالة
يختلف مفهوم الاستقرار من مكان إلى مكان و من دولة إلى دولة و من شعب إلى شعب ، فنسمع أن الدولة الفلانية تتمتع بالاستقرار في حين أن دولة أخرى لا يوجد فيها استقرار ، في حين تختلف ظروف كل مجتمع عن مجتمع آخر من حيث الثقافة و التربية و الوضع الاقتصادي ، و توفر الحريات العامة و مدى نفوذ الحاكم الفرد أو المشاركة في الحكم ، و هل هناك ديمقراطية صحيحة أم ديمقراطية مزيفة ، و قد تصح المقولة في هذا المجال ( كما تكونوا يولى عليكم ) ، فمثلا دولة من دول العالم الثالث قد يظهر للعيان أن الاستقرار متوفر فيها إذ لا مشاكل و لا قلاقل و لا مطالبات و لا مظاهرات و لا احتجاجات و الصمت يعم الجميع في حين أن الفقر و البطالة و المحسوبية و الفساد و الشللية و الفردية و سيطرة فئة قليلة من الناس على مصادر الثروة في البلاد في حين تعيش الغالبية العظمى في ضنك من العيش ، كل ذلك ظاهر للعيان و مع ذلك ترى الاستقرار ( بمعنى الهدوء ) ، متوفر ، و في هذه الحالة و أمثالها يسمى مثل هذا الاستقرار ، استقرار الحيف و الخوف ، و مثل هذا الاستقرار لا يدوم بل ينتظر الفرصة السانحة للثورة و قد يصدق تصوير مثل هذا الوضع بشكل عام ببيتي الشعر التاليين :
أرى خلل الرماد وميض نار و يوشك أن يكون لها ضرام
فان لم يطفها عقــلاء قوم يكون وقودها جثث وهـام
و عطفا على هذه الحالة فيجب أن نشير إلى أن هذه الفئة الحاكم و المسيطرة و التي تتمتع بمباهج الحياة بكل أبعادها و هي على كل حال فئة قليلة ، هذه الفئة تستغل ظاهرة التدين عند غالبية الشعب و تشجع هذا التوجه و تركز على مضمون الآية الكريمة ﴿وأطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم ﴾ ، و هذا المفهوم يعني إطاعة الفئة الحاكمة و عدم إزعاجها و عدم تكدير عيشها الرغيد المبني على شقاء الغالبية العظمى من الناس ، في حين لا يتصد المثقفون و الوطنيون الصادقون إلى توضيح أن الدين يبني الصرح الاجتماعي السليم و الجيد لناس ، و لكن الصرح الاقتصادي المناسب و الصرح السياسي العادل يرسمه المفكرون الصادقون و القادة المخلصون و في هذا المجال قال الشيخ حسين فضل الله العالم و الفقيه الشيعي في لبنان ( الدين مشروع فردي للخلاص الأخروي ) ، و نعود للنوع الثاني من الاستقرار الذي يسود في كثير من الدول الغربية المتقدمة في كل المجالات السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية مثل السويد و النرويج و هولندا و بلجيكا و بريطانيا و الدنمارك و غيرها من الدول المشابهة و حيث اكتمل بناء المجتمع من جميع النواحي بفعل فكر المفكرين و إخلاص القيادة السياسية و إرادة الشعب القوية التي تراقب سلوك القيادة و تغيرها إذا رأت أي انحراف ففي هذه الدول و هذه المجتمعات يظهر الاستقرار الصحيح على قواعد المشاركة و العدالة ، هذا الاستقرار هو استقرار الكفاية و العدالة .
هذا الاستقرار حصل نتيجة العقد الاجتماعي الذي نظمه الدستور الصالح المتفق عليه بين كل أطياف الشعب ما بين الشعب و قياداته الحزبية الواعية و ما بين الحكام و الذين يتغيرون باستمرار عن طريق الانتخابات النزيهة و الشفافة ، في حين أن مفهوم المسئولية لدى هذه الشعوب هو التصدي للخدمة العام السليمة و ليس السيطرة على مقاليد الأمور لغايات النهب و توزيع المغانم على الأقارب و الأصهار و المحاسيب و التصرف على اعتبار أن البلد الذي يحكمون هو مزرعة لهم ورثوها عن آبائهم و أجدادهم و يتصرفون بمحتوياتها و يورثونها لأبنائهم و هذا هو الوضع السائد في دول العالم الثالث .
كلمة أخيرة لا بد من قولها و هي لماذا لا يفكر حكام العالم الثالث أن الله أكرمهم في تولي المسؤولية لخدمة الناس فلماذا لا يعملون في إطار العدل خاصة و أن فترة حكمهم قصيرة مهما طالت خمسة أو عشرة أو عشرين عاما و هذه المدة قصيرة في عمر الزمن و كما أن الحاكم يقوم بواجبه و خدمة شعبه فمن حق غيره كذلك أن يساهم و يشارك في خدمة الأمة و الشعب بعين العقل و العدل ، و لماذا لا ينظر حكام العالم الثالث أن ذهب من قبلهم و ماذا كتب التاريخ عنهم و من أراد أن يكون عادلا فانه يستطيع و يحقق خدمة شعبه ثم راحة ضميره و شعوره بالسعادة و قد قال احد حكماء اليونان قبل ظهور الديانات اليهودية و المسيحية و الإسلام ( لكي تكون سعيد عليك أن تكون فاضلا ) .
و ختاما فهل يتعظ من يفكر برؤية و يقرأ التاريخ جيدا و على ضوء التجارب يتصرف و يساعده الشرفاء في بلاده لإدارة الحكم و تحقيق العدالة و هذا أمر ليس صعب .