عندما أصبح الفساد بنيوياً ، وتعولم بشكل
وبائي ، بدأ التعامل معه كقضاء وقدر ، لا يطلب الناس الا اللطف فيهما ،
والآن تجري المفاضلة بين فساد صغير وآخر كبير ، الاول يمارسه الناس
العاديون عديمو الحوْل والقوة من خلال الوساطات والرشوة ، والثاني يحتكره
الكبار من الذين ظفروا ببوليصات تأمين ضد اية مساءلة سواء كانت قانونية او
اخلاقية.
ان ما افسد كثيره.. قليله حرام ، فالفساد يبدأ صغيراً
وربما بذرة مسمومة لكنه سرعان ما يتحول الى غابة تعج بالنمور والافاعي ولا
مكان فيها للضعيف الا باعتباره وجبة لهذا الحيوان الضاري او ذاك،.
ما
من فساد هو منزلة بين المنزلتين ، سواء كان دولاراً او مليار دولار ،
فالمسألة اولاً في صميم الموقف وليست متعلقة بالارقامن والفاسد الصغير هو
مشروع فاسد كبير بالضرورة. ومن يعرف بانه ظفر بمقعد وظيفي بالواسطة. سيقبل
بعد توليه مقاعد اكبر بوساطات الآخرين ، لان هذا السياق عضوي ولا يتجزأ ،
ولا نظن ان من يقتل نفساً بشرية بغير حق وبعشرين رصاصة هو بخلاف من يفعل
ذلك برصاصة واحدة أو سكين،.
وحيثما ولى العربي وجهه في هذه الايام
يسمع سجالاً عن الفساد ، بحيث أصبح هذا الفساد كما لو انه يتيم او منسوب
الى مجهول ، ذلك لأن التهرب من مواجهة الظواهر السلبية في عالمنا العربي
يحولها الى مفاهيم مجردة ، فثمة خيانات بلا خونة وجرائم بلا مجرمين
وبالتالي فساد بلا فاسدين ، وهذا الفك للارتباط بين الفعل والفاعل ، من
شأنه ان يديم السجال العقيم قرنا من الزمن بلا أي طائل ، ونذكر ان بعض
الاقتصاديين البراغماتيين في القرن الماضي وبالتحديد في العقد الثاني منه ،
دعوا الى قليل من الفساد لتمرير قرارات بيروقراطية ، واعتبروا الفساد
بمثابة التزييت او التشحيم لتلك القرارات ، لكنهم لم يدركوا ان النسبة
المحددة من الفساد الذي اقترحوه لن تبقى على حالها وان الحبة سوف تصبح قبة ،
والمرض الطارئ سوف يتحول الى وباء ، قد لا تنفع معه اللقاحات بعد فوات
أوانها،.
لقد تضررت الشعوب الاكثر فقراً من الفساد اكثر مما تضررت
من غزاتها ، لأن العدد الداخلي يقضم أحشاءها ويمتص نخاعها وهي آخر من
يعلم،.
أما الغرب الذي شمّر عن ساعديه ليلاحق الاموال المرصودة لما
يسميه الارهاب: فهو انتقائي ، ويكيل بعشرة مكاييل وليس باثنين فقد ، فهو
يرعى الفساد على طريقته ، ويغذيه باعتباره كاتم الاسرار والحديث عن
الشفافية له بعد واحد فقط.
لقد فتحت هذه الملفات السوداء في العالم
العربي بخطوط طوله وعرضه ، لكنها سرعان ما كانت تُطوى ، الى ان تفاقم الداء
وزكمت الرائحة الانوف ، وأصبحت لدى العرب انفلونزا فساد وبائية مزمنة
وسريعة العدوى ، فالسّمسرة أصبحت لها اسماء اخرى وكذلك الخيانة وكل
الموبقات ، وكأن هناك اخصائيين ماهرين في طلاء القصدير بالذهب ، ورش السكر
على العلقم ، وتعطير الجيف،.
ان موعد المجابهة الميدانية مع هذا
الوباء ، قد ازف منذ زمن بعيد ، لكن الأوان لم يفت بعد ، فكم سيكون استدراك
ما تبقى ممكناً؟.
خيري منصور
الدستور