الوحدة العربية / عمان و الكرك
مجلة الأفق – 26 – تموز – 1992
منذ أيام الدراسة الابتدائية و الإعدادية و الثانوية و الجامعية و الوحدة العربية هاجس الجميع كما كانت هاجس الآباء و الأجداد و ستبقى هدفا للأبناء و الأجيال القادة ، لان التاريخ العربي اثبت أن قوة العرب في وحدتهم ، و لكن القوة ليست الهدف الوحيد للعرب دائما ، هناك هدف تحقيق العدالة و التقدم و رفع سوية المواطنين الاقتصادية و الثقافية و الصحية و كل مناحي الحياة في ظل دولة قوية عادلة تحمي حمى الوطن من الخطر الخارجي و تحقق العدالة في الداخل و تمني حس المواطنة الصالحة من حيث الناحية الروحية و النفسية و المادية و الإنسانية ، هذا هو تصور المواطن العادي لما ستحققه الوحدة العربية كما أن المواطن كذلك لديه استعداد لان يتصور بان تكون عاصمة الوحدة متقدمة و متميزة إلى حد ما ، عن بقية مدن الأطراف لما تقتضيه مظاهر الحياة الحديثة تجاه العالم من حيث أن العاصمة تمثل وجه الدولة .
و لكن في ظل الأوضاع السائدة في الاقطار العربية و عددها يزيد عن 21 دولة و على سبيل الافتراض بتحقيق الوحدة العربية ، فان المتوقع أن يتكون القاهرة هي العاصمة المركزية لكونها تقع في وسط الوطن العربي و لكونها عاصبة اكبر قطر عربي و على ضوء المعطيات الحالية و الظاهر الحالية الموجودة في كل الاقطار العربية من حيث الفوارق الكبيرة ما بين العاصمة و المدن الأخرى في كل قطر عربي ، فان السلطة المركزية في القاهرة ستركز جل اهتمامها على العاصمة حيث مراكز النفوذ و ذويهم و أصدقائهم و أنسابهم و أقارب أصدقائهم و أقارب أنسابهم و المحاسيب و توازن القوى و إذا زاد شيء من المكارم فسوف يمتد إلى ما حول العاصمة مع ترضية أصحاب النفوذ في دمشق و بغداد و الرياض و صنعاء و الخرطوم و الجزائر و مقديشو الرباط ، و تذهب موازنة الدولة على مثل هذه الأمور و لا يمر وقت طويل إلا و تنتشر المجاعة و الفقر و المرض و الجهل و السلب و النهب و العنف ثم ترتفع كثبان النفاق حول القيادة فلا تعود ترى الحقيقة .
ثم أعود إلى بلدي الأردن فاني كمحام أسافر من الكرك إلى عمان على الأغلب أيام الاثنين حيث محكمة استئناف عمان فانطلق بسيارتي من الكرك صباحا بعد أن أكون قد مررت بالشارع الرئيسي فيها و من ثم ببعض إحياءها ، و بعد أن اقطع حوالي 120 كلم ادخل عمان من جهة الدوار السابع / غرب عمان ، و هناك اشعر باني دخلت بلدا آخر ، يختلف بدرجات و درجات عن مدينة الكرك ، من حيث البنايات الشاهقة و الشوارع الواسعة و الحدائق الغناء و السيارات الفارهة و المحلات التجارية و ازدياد الحركة العمرانية و التجارية و الاقتصادية ، عالم متحرك و نهضة و ثراء ووعي و من ثم ثقافة و حديث بلغات أخرى ، و منتزهات و حدائق و مستشفيات و مدن رياضية و علاقات و صداقات و صفقات ، كل هذا في عمان ، و بمقارنة بسيطة مع الكرك ، يظهر البون شاسعا فأسأل نفسي : هل الكرك و عمان ضمن بلد واحد و حكومة و عدالة واحدة ؟ و بالتالي هل الناس هنا مثل الناس هناك ، و كيف و لماذا ؟ و من المسئول ؟ و ما العمل وكيف تتسارع الأحداث في الكرك و عمان ، و كم يزداد بعد المسافة الحضارية و الاقتصادية و إلى أي حد نصل ، ثم ماذا بعد ذلك ؟
و أخيرا أود أن أورد طلبا ، ثم بعده ابدي ملاحظة ، ثم أقدم أنموذجا :
أما الطلب : فهو أن تشكل القيادة لجنة حيادية من خبراء ( اقتصاديين و اجتماعيين و سياسيين ) ، لا يتجاوز عدد أعضائها العشرة أعضاء ، و تهيأ لها الظروف و الإمكانيات لتطوف في أرجاء الأردن و تتقصى الحقائق و تضع الدراسات عن أحوال الناس و مدن الأطراف و الأرياف ، و من ثم تضع اقتراحات للعمل على أن تكون مسيرة الشعب في القطر الأردني منسجمة متقاربة كشعب واحد و أناس يعيشون في هذا الوطن ، و على ضوء ذلك توضع الخطط لمعالجة الخلل الاقتصادي و الاجتماعي و النفسي ثم تنفذ بجدية .
أما الملاحظة فهي : إذا كانت المسافة ما بين الكرك و عمان 120 كم فقط و ترى هذا الفرق الاقتصادي و العمراني و الثقافي و النفسي ، فكيف يمكن للمواطن الذي يهجس بالوحدة العربية أن يصدق أن الفارق المسافي بين القاهرة و الكرك و وهران و ريف موريتانيا و قرى اليمن و بوادي الجزيرة العربية و أهوار العراق و جنوب الأردن و جنوب السودان لن يكون له اثر كبير على تحطيم مبادئ الأخوة و العدالة و نشر الفقر و التخلف في ظل المودة التي طالما حلم بها .
أما النموذج فهو : في عام 1936 أوفدتني وزارة التربية و التعليم ضمن فريق إلى الجامعة الأمريكية في بيروت في بعثة دراسية مدتها سنة اشترك فيها أردنيون و فلسطينيون وسوريون و مصريون و ليبيون و مغاربة ، موضوعها : "تنمية المجتمع" ، و في نهاية تلك السنة رتبت إدارة الجامعة الأميركية في بيروت رحلة إلى اليونان مدتها عشر أيام زار الفريق خلالها معظم مدن و أرياف اليونان و من ضمنها منطقة سالونيك في الشمال و كان هناك لقاء مع "رئيس حكومة سالونيك " ، كما قيل لنا ، و تحدث إلينا رئيس الحكومة و قال : " كانت منطقة سالونيك مع تركيا في حين حصلت اليونان على الاستقلال و بعد خروج تركيا من سالونيك ألحقت باليونان و هنا تبين الفارق العمران و الاقتصادي و النفسي ما بين منطقة سالونيك و بقية أجزاء اليونان حيث كان التخلف هو الطابع العام لمنطقة سالونيك و بعد دراسة مستفيضة للوضع من قبل الحكومة في أثينا تهدف إلى إلحاق منطقة سالونيك ببقية اليونان و بتسارع و اصح بمعنى إذا كانت اليونان تسير نحو التقدم بسرعة 50 كلم / ساعة ، بالشكل الطبيعي فيجب أن يكون تسارع منطقة سالونيك 100 كلم / بالساعة حتى يضيق الفارق بينهما في عدة سنوات بحيث تصبح اليونان منسجمة مع بعضها و بعد ذلك تسير البلاد مع بعضها البعض و لذلك شكلت حكومة لا مركزية في سالونيك و أعطيت صلاحيات استثنائية كاملة لمعالجة الأوضاع و هذا ما شاهدناه فعلا .
في ضوء ذلك ماذا يمكن أن تفعل السلطة المركزية في عمان مع محافظات الجنوب لتلحق بركب الاقتصاد و الحضارة و العمران في عمان و هل لديها خطة لذلك و قبل ذلك هل لديها معلومات عن الفارق الاقتصادي و العمراني و الثقافي .